على أنقاض بيوت غزة المدمرة وفوق أشلاء أطفالها المتناثرة وعلى صوت أنين الثكالى والأرامل والأيتام وأصحاب الفقد وعلى دماء شيوخ غزة ونسائها المتدفقة بلا توقف، تهاوت العدالة الدولية وتساقطت المعايير الأخلاقية والقانونية التي لطالما تغنت بها دول العالم الذي سمي نفسه حرا إلى حين بدء حرب الإبادة الجماعية التي كشفت قبح وجهه وعينه العوراء.
لم تعد غزة مجرد ساحة حرب، بل هي مختبر أخلاقي للعالم كله، أنت تتحدث عن مكان تم فيه تعليق القوانين الدولية وأضحت بنود على ورق لا تساوي الحبر الذي طبعت في، وجمدوا فيه القيم وكأن الإنسانية نفسها أعيد تعريفها على مقاس الاحتلال.
في غزة تُقصف البيوت على رؤوس أصحابها، وتُباد عائلات بأكملها وتمسح من السجل المدني، ويُمنع الماء والدواء والكهرباء عن أكثر من مليوني إنسان عبر البث المباشر امام مراى ومسمع العالم بأكمل ولا أحد يحرّك ساكنًا.
ماذا فعلت المحكمة الجنائية الدولية لغزة بعد مرور 600 يوم على الإبادة الجماعية و ماذا فعلت الأمم المتحدة و هل شفعت لنا لها اتفاقيات جنيف قرأنا أنها تُعد حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني، وهي مجموعة من المعاهدات والبروتوكولات الدولية التي تهدف إلى وضع حدود للوحشية في زمن النزاعات المسلحة وحماية الفئات الأكثر ضعفاً، هل هناك أكثر وحشية من الإبادة التي تعيشها غزة على مدار 600 يوم، قُتِل فيها البشر و الشجر و الحجر، أين هي الدول التي تُقيم الدنيا لحقوق الحيوان، لكنها تصمت عندما يُقتل طفل كل عشر دقائق في غزة؟
في غزة تتلون العدالة الدولية بصمت وتتماهى مع الجلاد، كأنها تقول: "في غزة، لا توجد قواعد. كل شيء مباح… طالما القاتل هو الاحتلال".
في غزة فقط و في القرن الواحد و العشرون ، يُستهدف المستشفى على مرأى العالم ، ويُتهم المصابون، ويُقصف البيت، وتُدان الأسرة، تُباد عائلة، وتُبرر المجزرة بأنها "دفاع عن النفس"، وفي المقابل، يُمنع الفلسطيني حتى من الدفاع عن نفسه بكلمة أو رصاصة أو صاروخ أعد على مدار سنوات من أحلك سنوات الحصار و أقساها على قطاع غزة للدفاع عن وطن سليب يعاني من ويلات الاحتلال منذ عقود، مرت عليه نكبة الثمانية و أربعين و نكسة ال67 ، وأخذت الرباعية الدولية التي تأسست عام 2002 ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية والأمم و المتحدة وروسيا و الاتحاد الأوروبي على عاتقها المساعدة في التوسط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكنها لم تحقق شيئا من أهدافها.
تاريخ كامل عاشه الفلسطينيون تحت وطأة محتل لم ينل شيء من حقوقه حتى بالتفاوض والطريق السلمية تُطرح القرارات كمسكنات لا يطبق منها شيء كقرار 242 الذي غيَّب الاعتراف بالحقوق الفلسطينية ولم يذكر القرار الفلسطينيين كشعب له حق تقرير المصير، بل أشار إليهم فقط في سياق "مشكلة اللاجئين".
ولم تكن خارطة الطريق التي وضعتها الرباعية الدولية سوى إبرة بنج في تاريخ القضية الفلسطينية فلم ينفذ من مراحلها الثلاث سوى جزء من المرحلة الأولى فقط ولم تقم الدولة الفلسطينية ولم يتم الاعتراف بها
وأصبحت خارطة الطريق مجرد جزء من تاريخ طويل من المحاولات الدبلوماسية الفاشلة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
إنها غزة المحتلة والمحاصرة منذ عقود والتي لم يمل المحتل من قتل سكانها وتشريدهم من خلال عدوانات متكررة أبرزها 2008 التي عرفت بمعركة الفرقان و التي راح ضحيتها أكثر من 1430 فلسطينيًا، وإصابة أكثر من 5400، والعدوان الإسرائيلي على غزة 2012
والذي أسفر عن استشهاد حوالي 162 فلسطينيًا وإصابة حوالي 1300. وعدوان عام 2014، استشهد فيه أكثر من 2147 فلسطينيًا (منهم أسر بأكملها)، وأصيب أكثر من 10870.، وعدوان عام2021 الذي راح ضحيته ما لا يقل عن 256 فلسطينيًا، وإصابة حوالي 1900، وعدوان عام 2022 وصولا إلى طوفان الأقصى 2023 - 2024 والتي لا تزال قائمة حتى لحظة كتابة هذا المقال وكانت هي حرب الإبادة العلنية التي شنتها اسرائيل تحت ذريعة أنها ردا على عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها حماس وفصائل فلسطينية أخرى ضد إسرائيل في 7 أكتوبر وراح ضحيتها 54 ألف و249 الحصيلة(مستمرة) حتى وقف هذه المحرقة.
تاريخ ممتلئ بالدماء والتشرد والنزوح من قبل محتل أوجد له ذريعة الرد على الطوفان دون واوجد له العالم الحماية لذلك بينما لم يبرروا للطوفان عقود من الهجرة والحصار والأسر إنها العدالة الدولية التي ترى بعين عوراء
حرب أدت إلى دمار غير مسبوق للبنية التحتية حيث تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 70% من المباني في غزة قد تضررت أو دمرت، و أدت إلى أزمة إنسانية كارثية، بما في ذلك مجاعة وشيكة، ونقص حاد في المياه والكهرباء والرعاية الصحية ليست كافية للرد على طوفان كان يطالب فيه صاحب الحق بحقه المغتصب منذ سنين، غزة فقط صوتها مشكوك فيه، وروايتها "غير موثوقة"، ودمها "خارج سياق الإدانات" لكنها غزة رغم هذا الانهيار الكامل في منظومة العدالة، لا تستسلم، تبني من تحت الركام و يعيش أهلها في الخيام، وتخرج من تحت النار، وتصرخ باسم الحقيقة، وتفضح هذا الصمت العالمي المشين و تكشف نفاق العالم، وتُكشف حقيقة ازدواجية المعايير و تُظهِر بالخط العريض بأن حقوق الإنسان لم تُكتب للفلسطينيين.
كيف لا وقد امتلأت سماء غزة بطيران حربي إسرائيلي، وأمريكي، وبريطاني، وحتى روسي، وتحولت إلى لوحة معقدة، لا تحمل فقط طائرات، بل تكشف عن أكبر منظومة استخباراتية وعسكرية تتابع شريطًا جغرافيًا لا يتجاوز 365 كم².
لكنها غزة رمزًا لا يرحل، ورقعة لا تنكسر، ومقاومة تُرعب حسابات القوى الكبرى.